العقيدة الصحيحة صمام أمان من التطرف والفتن .

كتبه  الشيخ أحمد بن قذلان المزروعي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه , أما بعد…
فإننا في زمان كثر فيه التطرف , وانتشر فيه الانحراف والتخلف , حتى أصبح الفرد مهدداً بتعرض الشهوات ودخول الانحرافات , بل أصبحت الدول مهددة بذهاب الأمن واقتحام الفتن , وللأسف أنه قد غاب عن كثير من المصلحين فضلاً عن عامة الناس أهم سبب يمنع دخول هذه الأفكار التي تهدد عقيدة المسلم وحياته ومجتمعه ألا وهو  تقرير العقيدة الصحيحة وتحقيقها وترسيخها؛ فهذا هو السبب الأساسي الذي يحمي المجتمعات من التطرف بجميع صوره, وهو صمام الأمان من جميع الانحرافات الغالية أو الجافية.
وذلك لأن طريق الإسلام واحد, وعن جانبيّ الطريق طرق كثيرة منحرفة إلى غلو, وطرق أخرى منحرفة إلى جفاء, وقد بيّن الله هذا الطريق وأشار إلى تلك الطرق المنحرفة في قوله تعالى:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }([1]).
وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراط, والطرق التي عن جانبيّ الطريق حين خط صلى الله عليه و سلم يومًا خطًا فقال: “هذا سبيل الله” ثم خط خطوطًا عن يمين الخط وعن شماله فقال :”هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه” ثم تلا هذه الآية:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } للخط الأول:{ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } للخطوط:{ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }([2]).
قال العلامة الشاطبي المالكي رحمه الله:”فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة، والسُّبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع, وليس المراد سبل المعاصي ؛ لأن المعاصي من حيث هي معاصٍ لم يضعها أحد طريقًا تسلك دائمًا على مضاهاة التشريع وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات”([3]).
فكل طرق أهل البدع والأهواء, طرق تطرف وانحراف إلا ذلك الطريق الواحد, وهو الإسلام الذي دلّ عليه القرآن وفسره خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم, وسلكه صحابته الكرام رضي الله عنهم, وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الطرق المتطرفة وعدد هذه الانحرافات وبين صفة الطريق الواحد الذي هو طريق أهل الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم:” تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة” قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال:”ما أنا عليه وأصحابي([4]) وفي رواية([5]) قال “الجماعة“.
فطريق الإسلام واحد كنور شعّ وسط ظلمات كثيرة, متفرقة, متشعبة, لا يحجب عن رؤيته إلا أعمى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”قد تركتكم على البيضاء, ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك“([6]).
فعلى المسلم أن يكون على هذا الطريق الصافي وعلى هذا النور البين, ولا يذهب مع الغلاة في ظلماتهم, ولا مع الجفاة في دركاتهم, بل عليه أن يكون كما أمره الله على صراط مستقيم, وما أجمل ما قال الحسن البصري رحمه الله:”سننكم  والله الذي لا إله إلا هو بينهما بين الغالي والجافي, فاصبروا عليها رحمكم الله, فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى, وهم أقل الناس فيما بقي : الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في أترافهم, ولا مع أهل البدع في بدعهم, وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم, فكذلك إن شاء الله فكونوا”([7]).
فلزوم هذه الطريق يحميك من الوقوع  في مستنقع الفرق التي هي طرق هلاك وانحراف, ومناهج تطرف واختلاف: تخالف القرآن والسنة, وتهدد الأمن والجماعة, فهي متطرفة تطرفًا واضحًا بينًا من عدة أوجه:
الوجه الأول: تطرف الفرق المنحرفة بمخالفتها للكتاب والسنة وما عليه خير القرون.
فجميع هذه الفرق مخالفة للكتاب والسنة وما عليه الصحابة رضي الله عنهم ,و ما من فرقة إلا كان أصل انحرافها مخالفة أحد  هذه الأصول الثلاثة, وهذا أصل التطرف والانحراف.
وقد توعد الله من خالف هذه الأصول فقال تعالى:{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }([8]).
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:” سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها إتِّباع لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد بعد هؤلاء تبديلها ولا النظر في شيء خالفها, من اهتدى بها استنصر, ومن انتصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين, وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً”.([9])
الوجه الثاني: تطرف الفرق المنحرفة ببغضها لحكام المسلمين.
            فكل فرقة من هذه الفرق تبغض السلطان أو عندها خلل في عقيدة السمع والطاعة لحكام المسلمين , ومن هذا الوجه فهي تهدد الأمن في الأوطان.
يقول سهل التستري رحمه الله:”هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة : اثنتان وسبعون هالكة ، كلّهم يبغض السلطان ، والناجية هذه الواحدة التي مع السلطان”. ([10])
وقال أبو قلابة رحمه الله: “ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف”([11]) أي خرجوا على السلطان.
وقد رأى الناس ما حصل في بعض البلدان التي لحقها ما يسمى زوراً بالربيع العربي من خروج بعض علمائهم ممن تأصلت فيهم البدعة، والمنتسبين لمؤسسات دينية رسمية مع الغوغاء وحدثاء الأسنان في مظاهرات واستنكارات ومطالبات بإسقاط رئيسهم المسلم، وما ذلك إلا لمخالفتهم لهذا الأصل العظيم وهو السمع والطاعة.
الوجه الثالث:تطرف الفرق المنحرفة بدعوتها للتحزبات.
وذلك لأن كل فرقة منها مفارقة ومفرقة للجماعة؛إذ ما من فرقة إلا وتدعي أن الحق معها فتوالي من معها وتكفر أو تعادي أو تفارق من خالفها .
يقول تعالى :{وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الّذِينَ فَرّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}([12])
يقول الطبري في تفسير الآية:”كل طائفة وفرقة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحقّ، فأحدثوا البدع التي أحدثوا{بما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}يقول: بما هم به متمسكون من المذهب، فرحون مسرورون، يحسبون أن الصواب معهم دون غيرهم”([13]).
وقال عند قوله تعالى: {وَإِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاتّقُونِ (*) فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}([14]):”كل فريق من تلك الأمم ، بما اختاروه لأنفسهم من الدين والكتب ، فرحون معجبون به، لا يرون أن الحقّ سواه([15]).
ويقول تعالى:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (*) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ }([16]).أي : “ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقاداتهم ومللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم, إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين.  أخبرتُهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأميّ خاتم الرسل والأنبياء، فاتّبعوه وصدّقوه، ونصروه ووازروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ لأنهم الفرقة الناجية”([17]).
  • فيتحصّل من هذا أمر مهم وهو ما قرره أئمة الدين أن :“أصحاب الأهواء كلّهم خوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف”.([18])
  • فتطرف جميع الفرق المنحرفة على نوعين :
النوع الأول: تطرف خاص وهو ما اختصت به كل فرقة بانحراف معين في باب من أبواب العقيدة.
النوع الثاني: تطرف مشترك وهو اشتراك جميع الفرقة المنحرفة في مخالفة الكتاب والسنة, وبغض حكام المسلمين, وتفريق جماعة المسلمين.
وأما أهل الحق فهم أهل سنة وجماعة؛ تمسكوا بالسنة, ولزموا الجماعة فسلموا من جميع أنواع التطرف والانحراف فحققوا الأمن في البلاد وللعباد.
فإذا تبين هذا فيجب على كل مسلم أن يطلب العلم الموصل إلى عقيدة أهل السنة والجماعة؛ إذ لا عصمة بعد فضل الله من هذا التفرق ومن ألوان التطرُّف إلا بالتمسك بهذه العقيدة المباركة.
قال الحسن البصري رحمه الله :” العامل على غير علم كالسالك على غير طريق, والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح, فاطلبوا العلم طلبًا لا تضروا بالعبادة, واطلبوا العبادة طلبًا لا تضروا بالعلم, فإن قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم, ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا”([19]).
فطلب علم العقيدة الصحيحة واجب يُؤَمِّن الفرد من جميع أنواع التطرف ؛إذ كل أصل من أصول هذه العقيدة الصحيحة يقابلها منهج تطرف غال أو جاف, ويتضح لك ذلك بذكر بعض أصول العقيدة مختصرة مع ما يضادها من نوع التطرف والانحراف:
  • فتوحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله هو الخالق البارئ المدبر المالك, عاصم من تطرف الإلحاد الجاحد لوجود الله أو لخلقه للكون وما فيه.
  • وتوحيد الأسماء والصفات وهو إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى لله تعالى, عاصم من تطرف نفي الصفات الذي وقع فيه الجهمية والمعتزلة وأفراخهم, وعاصم من تطرف تمثيل الصفات الذي وقع فيه الممثلة المشبهة.
  • وتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة كلها, عاصم من تطرف الشرك في عبادة الله الذي وقع فيه القبوريون.
  • والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنَّه عبد الله ورسوله, عاصم من تطرف الغلو فيه كالذين يدعونه من دون الله, و عاصم من تطرف الجفاة التاركين لسنته صلى الله عليه وسلم أو الطاعنين في الأحاديث الصحيحة كالقرآنيين أو العقلانيين أو العلمانيين الذين أبعدوا الدين عن الحياة.
  • والإيمان بالقرآن أنه نور وهدى وأنه كلام الله جل وعلا, عاصم من تطرف المكذبين بهأو النافين لكونه كلام الله حقيقة.
  • والإيمان بالملائكة وأنهم خلق من خلق الله خلقوا من نور وهم عباد مكرمون, عاصم من تطرف المشركين الذين قالوا إن الملائكة بنات الله -تعالى الله عن ذلك- وعاصم كذلك من تطرف الفلاسفة الذين أنكروا وجودهم .
  • والإيمان باليوم الآخر من فتنة القبر ونعيمه وعذابه والبعث والحشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار, عاصم من تطرف المشركين النافين للبعث والنشور, ومن تطرف المعتزلة والجهمية النافين لبعض ما يكون في اليوم الآخر.
  • والإيمان بالقدر خيره وشره وأن الله علم ما كان وما يكون وأنه في كتاب مكنون قد شاءه الله وخلقه , عاصم من تطرف القدرية والجبرية.
  • و معرفة حق الصحابة رضي الله عنهم ومكانتهم واعتقاد أنهم أفضل الخلق بعد الرسل, عاصم من تطرف الرافضة الطاعنين في جُل الصحابة, المكفرين لهم، الغالين في بعض الصَّحابة كآل البيت، وعاصم كذلك من تطرف الناصبة الطاعنين في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
  • ومعرفة حقوق ولاة أمر المسلمين من السمع والطاعة لهم بالمعروف وعدم الخروج عليهم , عاصم من تطرف الخوارج والمعتزلة, والجماعات المعاصرة كحزب الإخوان المسلمين ومن تولد منهم من الذين يعلنون الثورات ويطعنون في الحكام.
  • والاعتقاد بأن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, عاصم من تطرف المرجئة الذين سهلوا للناس الوقوع في المعاصي وعاصم من تطرف الخوارج الذين كفروا المسلمين بوقوعهم في المعاصي.
  • واعتقاد إسلام المسلم ومعرفة ما له من حقوق في الإسلام ,عاصم من تطرف التكفيريين الذين كفروا وقتلوا المسلمين بغير حق.
وهكذا بقية مسائل الاعتقاد فلا نجاة من جميع أنواع التطرف إلا بتحقيق العقيدة الصافية المستمدة من الكتاب والسنة وما عليه خيار الأمة.
إنّ العقيدة أسٌّ في الحياة فإنْ ….  ضاعت فكل حياة بعدها عدم
حتى في العبادات والأخلاق فالعقيدة أساس لجميع الأخلاق مقومة لجميع العبادات؛  لذلك بيّن الله تعالى أن من اختلت عقيدته اختل عمله و انحرفت أخلاقه فقال تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}
فعندما اختلت العقيدة بتكذيبه ليوم القيامة, اختلت معاملته مع اليتيم والمسكين بل أصبح يرائي في صلاته, ويمنع إعطاء الأمور البسيطة لجيرانه كالماعون قال ابن كثير: “لا أحسنوا عبادة ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به”([20]).
فهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة صمام أمان من التطرف, وسوء الأخلاق وهذا من مميزاتها كما أن مما يميزها كذلك أنها عقيدة ثابتة وقوية ,موافقة للفطرة وللعقول السليمة، وهي كذلك عقيدة سالمة من التناقضات، كما أنها عقيدة نجاة من الفتن الدنيوية والعذاب في الآخرة.
فإذا عرفت أهمية هذه العقيدة ومميزاتها فحريّ بك أن تتعرف على بعض أهم الكتب العقدية المفيدة التي تعينك على معرفة هذه العقيدة, والتي منها :
1-نظم حائية ابن أبي داود.
2- مقدمة الرسالة للقيرواني المالكي.
3- نظم مقدمة الرسالة لأحمد بن مشرف المالكي.
4-عقيدة الرازيين.
5-أصول السنة للإمام أحمد.
6- شرح السنة للمزني الشافعي.
7- أعلام السنة المنشورة لحافظ الحكمي.
8-مقدمة كتاب الجامع للقيرواني المالكي.
9-منظومة: سلم الوصول لحافظ الحكمي.
10-أصول السنة لابن أبي زمنين المالكي.
11-شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي .
فهذه جملة منوعة في كتب العقيدة لا بدّ للمسلم من إدامة النظر فيها أو في بعضها مع التدرج في قراءتها والحرص كل الحرص على فهمها والعمل بها.
ومن المهم بل من الواجب تنشئة الأجيال والأطفال على هذه العقيدة الصافية حتى تكون عندهم حصانة من كل نوع من أنواع التطرف كما قال  ابن أبي زيد القيرواني المالكي :”واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير, وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه, وأولى ما عني به الناصحون,  ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيها, وتنبيههم على معالم الديانة, وحدود الشريعة ليُرَاضوا عليها, وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم وتعمل به جوارحهم…وقد جاء أن يؤمروا بالصلاة لسبع سنين ويضربوا عليها لعشر ويفرق بينهم في المضاجع, فكذلك ينبغي أن يعلموا ما فرض الله على العباد من قول وعمل قبل بلوغهم؛ ليأتي عليهم البلوغ وقد تمكن ذلك من قلوبهم وسكنت إليه أنفسهم وأنست بما يعلمون به من ذلك جوارحهم “([21]), لذلك مما يقترح هنا من مقترحات هامة لترسيخ العقيدة في قلوب البنين والبنات:
المقترح الأول: تدريس العقيدة عن طريق المناهج التعليمية.
وذلك بأن تقرر العقيدة على عدة مراحل:
المرحلة الأولى: للطفل من الصف الأول إلى الصف الخامس على أن تمتاز هذه المرحلة ببساطة الطرح وترسيخ أهم معالم العقيدة, بعيداً عن الردود وذكر الشبه والانحرافات.
المرحلة الثانية: من الصف السادس إلى الصف التاسع, وفي هذه المرحلة يُتوسَّع في دراسة العقيدة ويُرتَقَى بأسلوب طرحها عن المرحلة الأولى بقليل ,على أن تمتاز  هذه المرحلة بذكر أدلة كل أصل من أصول العقيدة باختصار , مع حفظ الأصول مع أدلتها وفهمها فهماً صحيحاً وترسيخها ترسيخاً قوياً.
المرحلة الثالثة: من الصف العاشر إلى الصف الثاني عشر, وتكون دراسة العقيدة فيها  بشكل أوسع من حيث التأصيل وذكر الدليل, وربط ذلك بكلام أئمة الدين , مع بيان شيء من الانحرافات العقدية التي وقعت فيها الفرق المخالفة للكتاب والسنة بشكل مجمل غير تفصيلي, مع الرد عليها بذكر الدليل.
المقترح الثاني: تدريس العقيدة من خلال حلق تحفيظ القرآن.
 ويكون ذلك من خلال طريقتين:
 الأولى: بوضع منهج مناسب لكل حلقة من الحلقات, مع مراعاة المراحل العمرية.
والثانية: ترسيخ فقرات العقيدة من خلال المرور على آيات العقيدة في القرآن الكريم.
مثال ذلك في قوله تعالى:{ قُلْ أَعُوذُبِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ }فـيُعلَّم الحافظ من خلال هذه الآيات :
  • توحيد الله في ربوبيته وذلك في قوله {بِرَبِّ النَّاسِ}.
  • وتوحيد الله في أسمائه وصفاته وذلك في قوله {ملك النَّاسِ}.
  • وتوحيد الله في ألوهيته وذلك في قوله {إله النَّاسِ}.
وهنا ستأتي ثمرات حفظ القرآن وتُرسَّخ معانيه وعلومه في قلوب الولدان والشبان، فـيزدادون به إيماناً كما قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه: “كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ونحن فتيان حزاورة([22]) , فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن . فازددنا به إيمانًا”([23]).
المقترح الثالث: تدريس العقيدة من خلال الأحاديث النبوية الصحيحة.
وذلك بوضع منهج تعليمي تُنتَقَى فيه الأحاديث العقدية, ويقوم المعلِّمُ بـتدريسها ويُطلَب من التلاميذ حفظها, ويجعل في أصل ذلك الحديث المشتهر بـحديث جبريل، الذي رواه مسلم في صحيحه من حديثِ:
عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حيث قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِى عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :”الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً“. قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ.
قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ:”أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ“. قَالَ صَدَقْتَ.
 قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ :”أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ “. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ :”مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ“.
قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ :”أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِى الْبُنْيَانِ“. قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِى:”يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ “. قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ :”فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ “([24]).
فمن خلال هذا الحديث يتعلَّم الطَّالب مراتب الدين وأركان كل مرتبة, ويُفصَّل له في شرح هذه الأركان على حسب الفئات العمرية.
المقترح الرابع: مسابقة حفظ المتون العقدية.
 وذلك بوضع مسابقات في حفظ متون العقيدة , على ثلاثة مستويات مثلاً :
المستوى الأول:  حفظ نظم حائية ابن أبي داود.
المستوى والثاني: حفظ مقدمة الرسالة أو نظم ابن مشرف.
 المستوى الثالث: حفظ سلم الوصول أو مقدمة الكتاب الجامع للقيرواني.
المقترح الخامس : تدريس العقيدة في المساجد .
ويكون إلقاء الدروس فيها على طريقتين :
الطريقة الأولى: طريقة المحاضرات ولتكن محاضرات دورية مسلسلة مكثفة.
وهذه المحاضرات على نوعين :
النوع الأول: التوجيه العقدي المباشر وذلك بطرح أصول العقيدة بصورة مباشرة واضحة .
 مثال ذلك سلسلة محاضرات تحقيق السمع والطاعة لولاة الأمر, عناوين هذه السلسلة:
  • نعمة الأمن .
  • وجوب وجود ولي الأمر أهميته.
  • وجوب بيعة ولي الأمر.
  • وجوب السمع والطاعة لولي الأمر.
  • وجوب لزوم الجماعة.
  • التحذير من الخروج والخوارج .
النوع الثاني: التوجيه العقدي غير المباشر, وذلك بطرح المواضيع الوعظية والأخلاقية وربطِها بأصول العقيدة. مثال ذلك:
 الحث على إكرام الضيف وعدم إيذاء الجيران ولزوم الصمت فلا يقول المرء إلَّا خيرًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت“([25]).
فيربط فضل هذه الثلاث بجانب تحقيق العقيدة فكلَّما كان العبد مؤمناً بالله ومؤمناً باليوم الآخر كان أكثر كرماً وإحساناً وصمتاً وقولاً للخير.
الطريقة الثانية : عن طريق تدريس متون العقيدة بصورة أسبوعية تدريجية. وتجعل على سبيل المثال على أربعة مراحل:
المرحلة الأولى: يبدأ بمقدمة ابن أبي زيد القيرواني أو نظمها لأحمد بن مشرف.
الرحلة الثانية: ينتقل إلى مقدمة الكتاب الجامع لابن أبي زيد القيرواني.
المرحلة الثالثة: يشرع في تدريس العقيدة الطحاوية ويستعين بشرح ابن أبي العز الحنفي.
المرحلة الرابعة: يشرع في تدريس كتاب أصول السنة لابن أبي زمنين المالكي.
المقترح السادس: التركيز على العقيدة في خطب الجمعة.
وهذا جانب مهم وقوي إذ هو المجمع الأسبوعي لعامة الناس , وليكن تقرير العقيدة في خطب الجمعة بطريقين:
الطريق الأول: الطرح العقدي المباشر, وليكن هذا الطرح في الشهر مرة, إلا إذا دعت الحاجة لتكراره بسبب فشوّ عقيدة متطرفة كفكر التكفير مثلاً, فيحتاج حينئذ لتكرار تأصيل حقوق المسلم وإسلامه وخطر التكفير وشبه التكفيرين والرد عليها.
الطريق الثاني: الطرح العقدي غير المباشر وهذا الذي ينبغي أن لا تخلو منه خطبة من الخطب.
  • ويُنتبه هنا إلى أمرين مهمين:
الأول: الاستمداد العقدي.
حيث يجب أن تستمد أصول العقيدة من الكتاب والسنة الصحيحة ومن كتب العلماء المعتبرين؛ إذ كل عقيدة مبنية على غير نصوص الوحيين وما أجمعت عليه القرون المفضلة لا خير فيها , بل الانحراف في صحة الاستمداد يؤدي إلى الانحراف في فهم العقيدة الصحيحة, مما يؤدي إلى انحرافات أكبر وأكثر , وقد أوضح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذلك بقوله: “يكون عليكم أمراء يتركون من السنة مثل هذا -و أشار إلى أصل إصبعه- و إن تركتموهم جاءوا بالطامة الكبرى, و أنها لم تكن أمة إلا كان أول ما يتركون من دينهم السنة, و آخر ما يدعون الصلاة, و لولا أنهم يستحيون ما صلوا “([26]).
الثاني: اختيار المتخصصين الموثوق بعلمهم وعقيدتهم.
فالواجب أن يكون واضع هذه المناهج ومدرسها أهل المنهج المعتدل, فوضع هذه المناهج والخطب يحتاج إلى لجان متخصصة في المجال العقدي عارفة بواقع المجتمع, وأنفع من يضع هذا المنهج – من وجهة نظري – من كان من أبناء الوطن, المتخصصين في المجال الشرعي, الذين عرف منهم الصدق والوفاء وعرف منهم التمسك بعقيدة أهل السنة والجماعة الصافية.
وسأذكر لكم هنا قصتين تبيّن أثر المعلم على طلابه سلباً وإيجاباً؛ ليعرف خطر المعلم إن كان حاملاً  للأفكار المنحرفة, من فضل المعلم صاحب المنهج السليم:
يقول أبو إسحاق الجبنياني المالكي: “لا تعلموا أولادكم إلا عند رجل حسن الدين, يدين الصبيّ على دين معلمه، فلقد عرفت معلماً كان يخفي القول بخلق القرآن، ففُطن له، فلما علم أنه يطرد، وقف بين يدي مكتبه, وقال لصبيانه: ما تقولون في القرآن؟ قالوا لا علم لنا. فقال: هو مخلوق، ولا تُزالون عن هذا القول لو قُتلتم. فماتوا كلهم على هذا الاعتقاد.
            قال: وبلغنا عن معلم عفيف، رُئي وهو يدعو حول الكعبة ويقول: اللهم أيما غلام علمته، فاجعله في عبادك الصالحين، فبلغني أنه خرج على يديه نحواً من تسعين عالمًا وصالحًا, وكان يتعلم عنده جماعة من أولاد الكتاميين([27])، ولا يأخذ منهم شيئاً ولا يعلمهم يكتبون إنما يعلمهم القرآن والسنة. يقول: لم يصلحوا بعد لذلك حتى يصلح, فخرج كل كتامي علمه على الكتاب والسنّة”([28]).
وليس تقرير العقيدة مهمًّا في مراحل الأطفال فحسب, بل هو مهم ومثمر في جميع المراحل العمريَّة, وجميع المجالات الوظيفية من طب وهندسة وزراعة وغيرها؛ إذ كل من هؤلاء العاملين لا بدّ له في وظيفته من أساسين هما: الأمانة في العمل وقوة التخصص فيه ولا يسقي هذين الأساسين ويقويهما إلا الجانب العقدي؛ لأن الموظف إن كان قوي العقيدة, كان كثير المراقبة لله صادقاً في عمله أميناً فيه قوياً في أدائه, حريصًا على تعلم أصوله, وكان محصناً كذلك من دخول الأفكار المتطرفة ومن استغلال أصحاب الأفكار المتطرفة له فيكون بذلك قويًا في عمله, محافظاً على وطنه وجماعته.
  • وختاماً لابد من كلمة لعلها تجد آذانًا واعية وهي:
أنه كلما كانت العقيدة صحيحة صافية مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وما كان عليه القرون المفضلة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأئمة المعتبرين , كان المجتمع أكثر تماسكًا وأقوى لحمة وأرهب للعدو وأحمى للوطن .
وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه:”لا يزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا”([29]).
والحمد لله رب العالمين
([1])  الأنعام:153
([2])  رواه ابن ماجه (11) وأحمد (4142) والنسائي في الكبرى (11174) واللفظ له.
([3]) الاعتصام (1/76).
([4])  رواه الترمذي(2641),والطبراني في الأوسط (4886). وحسنه الألباني في سنن الترمذي(2641)
([5])  لأحمد (16937), وأبي داود(4599), وابن ماجه(3992), صححه الألباني في الصحيحة(204).
([6]) رواه ابن ماجه (43).
([7])سنن الدارمي  (216).
([8])النساء : 115
([9])الكتاب الجامع لابن أبي زيد  (149).
([10])  ينظر: قوت القلوب (2/209).
([11]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي (247).
([12])  الروم: ٣١ – ٣٢
([13])  تفسير الطبري(21/51).
([14])  المؤمنون: ٥٢ – ٥٣
([15])  الطبري(18/39).
([16]) هود : 118 ، 119
([17]) ينظر: تفسير ابن كثير(4/1820).
([18])  ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/162), الاعتصام الشاطبي (1/137).
([19]) جامع بيان العلم وفضله (1/545).
([20]) تفسير ابن كثير (8/3870).
([21]) مقدمة الرسالة (54).
([22]) جمع الحزور وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم.
([23]) رواه ابن ماجه(61).
([24]) رواه مسلم (9)
([25]) رواه البخاري (6018) ومسلم (47).
([26])رواه الحاكم في المستدرك (4/519).
([27])هذه النسبة إلى كتامة، وهي قبيلة من البربر، نزلت ناحية من بلاد المغرب.ينظر: الأنساب للسمعاني (5/31).
([28]) ترتيب المدارك (3/271).
([29]) المعجم الكبير للطبراني(8590).

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة