تفريغ الكلمة التوجيهية للشيخ محمد بن هادي المدخلي
الموجهة لأبنائه السلفيين بمدينة باتنة [27-11-1439هـ]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين، شهادةً أرجو بها النجاة يوم الدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيُبَعثر ما في القبور، ويُحصّل ما في الصدور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله، وأمينه على وحيه وتنزيله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنه لَيطيب لي أنا أيضا ويُسعدني أن ألتقي بكم أيها الإخوة الكرام والأبناء الأعزاء في هذه الليلة ليلة الخميس التاريخ المذكور الذي ذكره ابننا حبيب -جزاه الله وجزاكم خيرًا- ليلة 27 من شهر ذي القعدة عام 1439 من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ يطيب لنا أن نلتقي في هذا المساء نتذاكر فيما بيننا سائلين الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم جميعا بما علّمنا، إنه جواد كريم.
فأقول أيها الإخوة في الله، أولا: لِنعلم جميعًا أننا في هذه الحياة مدتنا محدودة، وأيامنا فيها معدودة، وسننتقل منها إلى ربّ العالمين ويُجازي كلا منا بما عمل، فدار الإقامة والخلود عند الله جل وعلا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل طاعته ومرضاته.
أقول: هذه الدنيا إنما هي دار امتحان وابتلاء واختبار، وعلى العبد أن يَصبِر وأن يحتسب الأجر عند الله جل وعلا فيما يَنزلُ به من المصائب؛ فيما يَنزل به من أقدار الله المؤلمة، عليه أن يصبر ويحتسب فيلقى الله سبحانه وتعالى وقد حصّل الأجر العظيم، فهذه الدار دار ابتلاء واختبار ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾، يقول جل وعلا: ﴿ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾الآيات.
فلابدَّ من الابتلاء، ولابدَّ من الاختبار في هذه الحياة الدنيا لِيظهرَ الصابرُ المحتسبُ الطائعُ لله جل وعلا الثابتُ على الحقّ ويظهر عكس ذلك؛ يَظهر من هو عكس ذلك الذي إذا ﴿أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾، نسأل الله العافية والسلامة.
فهذه الدار دار البلايا ودار الامتحان ودار الاختبار، والموفَّق من وفقه الله سبحانه وتعالى فيها للثبات على الحق والهدى، وهذا معشر الأحبة يجرّنا إلى شيء عظيم يستعين به العبد على هذا الأمر الذي ذكرناه ألا وهو الصبر؛ إنَّ هذا السبب العظيم هو: العلم الشَّرعي الذي يستبينُ به نَهْجَ الهدى مِن مُوجِب النِّقَم -عافانا الله وإياكم من ذلك-، فإنَّ (من يرد الله جل وعلا به خيرًا يفقهه في الدين) كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، و (خيرًا) نكرة في سياق الإخبار فتفيد العموم؛ جميع أنواع الخير في دنياه وفي أخراه، (يفقهه في الدين) يُبيِّن له سبحانه وتعالى ما أوجب عليه وما حرّم عليه وما ندبه إليه وما كرهه له سبحانه وتعالى وما أباحه، فإن هذه هي الأحكام التكليفيَّة الخمسة التي نص عليها علماء الأصول وعلماء الإسلام جميعا، فإن الأمر إما أن يكون للإيجاب إن كان للطلب جازما، وإما أن يكون للتحريم إن كان للنهي جازما، وإما أن يكون للندب إن كان على غير وجه الإيجاب وهو وطلب للفعل، وإما أن يكون للكراهة إن لم يكن على وجه العزيمة في طلب الكف، والخامس هو المباح، فمن وُفِّق لمعرفة هذه الأحكام التي بينها الله جل وعلا في كتابه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في سنته فهذا هو الذي ينطبق عليه أن الله جل وعلا أراد به الخير.
وإرادة الخيرية به: أن يعرف ما طُلب منه فيأتيه، ويعرف ما مُنع منه فيجتنبه، ويتورع عند المشتبهات كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-: (إن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن حمى الله محارمه).
فالواجب علينا وعليكم جميعا معشر الإخوة: أن نجتهد في هذا الباب؛ لأنه به تُعرف طريق النجاة من طريق الهلاك، نسأل الله العافية والسلامة، فإن العلم هو النور الذي يُستضاء به كما قال جل وعلا في كتابه: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُم نُورًا مُّبِينًا﴾، فهذا النور المبين هو كتاب الله جل وعلا؛ قال سبحانه وتعالى مبيِّنا ذلك في كتابه وناصا عليه في حق رسوله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال في وصفه إياه -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾، فوَصَفه -عليه الصلاة السلام- بأنه سراج، والسراج هو الذي يُنير للناس والنور هو هذا القرآن الذي أنزله الله جل وعلا عليه وهذه السنة الشريفة التي أنزلها سبحانه وتعالى عليه، فإن هذه السُّنّة كالقرآن نزلت من عند الله وحي كما جاء ذلك في حديث ابن حسان المقطوع عليه من قوله؛ قال: (كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسُّنّة كما كان ينزل عليه بالقرآن)، فالسُّنّة وحي من الله جل وعلا كالقرآن كما قال جل وعلا مبيِّنا ذلك في سورة النجم: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
وحيٌ من الله كالقرآن شاهدُه *** في سورة النَّجم فاحفظهُ ولا تَهِمِ
فالعلم هو: قال الله وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فالعلم إنما هو الدَّلائل لا القائل، فإذا عُرف الحق بدليله هذا هو الهدى، فالعلم إنما هو بالدَّلائل لا بالقائل؛ فإنَّ الدَّلائل الصحيحة الصريحة هي التي يتبيَّن بها مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومراد ربنا قبل ذلك في كتابه سبحانه وتعالى، وما كان صحيحا لكنه غير صريح هذا محلّ التَّجاذب عند لعلماء وهو الذي يحصل فيه الخلاف ولا يحصل مِن أهل العلم النكير من بعضهم على بعضهم؛ لأنَّ الدلالة فيه غير واضحة ولكل وجهة هو مُوليها، والفُهومُ هِبَةٌ من الله تبارك وتعالى؛ مواهب ربانيَّة يقسمها سبحانه وتعالى بين عباده فتجد هذا يفهم من الدليل هكذا وهذا يفهم من الدليل هكذا، فهذا الذي لا يُثرّب فيه أحد على أحد، هذه هيَ الأدلة ما بين ظاهرة وما بين متشابهة في الدلالة يحتمل هذا ويحتمل هذا، ومن القسم الظاهر بالأدلة ما دلَّ على توحيد الله سبحانه وتعالى وعلى أسمائه وصفاته جل وعلا فهي من المحكم الظاهر الذي يجب علينا جميعا معشر الأحبة أن نأخذ به وأن لا ندعه لقول أحدٍ كائنا من كان، وأن نُعلِن النكير على من خالفها كما قال علماء الإسلام: الأدلة الصحيحة الصريحة التي لا ناسخ لها ولا معارض يجب الإغلاظ في النكير على من خالفها.
فالشاهد: أنَّ من وفقه الله سبحانه وتعالى للعلم ووفقه لسلوك سبيله فقد وفّقه للخير كله كما قال جل علا: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾الجواب لا؛﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، كما قال جل وعلا: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.
فدرجة العلماء درجة عالية رفيعة كما بيّنها ربنا سبحانه وتعالى وبيّنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأهل العلم هم أهل الفضل وهم أهل الأجر الحسن على هذه الأمة لأنهم خَلَفَة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وورثته؛ يُحيون مِن بعده بِسُنَّته الناسَ ويُبصّرونهم بسبيل الله تبارك وتعالى ويدلّونهم ويرشدونهم إليه، والعلماء كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ورثة الأنبياء)، فيجب علينا احترامهم وتوقيرهم، وليس معنى ذلك أننا نأخذ كل ما قالوه أخطؤوا فيه أم أصابوا، فاحترامهم شيء وردّ الخطأ عليهم إن أخطؤوا شيء آخر، بل رد الخطأ هو الإحسان إليهم كما ذكرنا ذلك في غير ما مرة وفي غير ما مناسبة وفي غير ما موضع مِن أن (لولا من يُقيمه الله سبحانه وتعالى لرد أخطاء العلماء إذا هم أخطؤوا لكان العالِم في قومه كالنبي في أمته) كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
فالعلماء محلّ الاحترام والإجلال والتقدير وليسوا محل التقديس بحيث ننساق ونأخذ أقوالهم من غير نظر في دلائلها، فإنَّ أهل العلم والتحقيق هم الذين يأخذون الأقوال بدلائلها لا بقائلها؛ هذا هو التحقيق، فإن هذا هو العلم.
العلم معرفة الهدى بدليله *** ما ذاك والتقليد يستويان
والجهل داءٌ قاتل ودواؤه *** أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة *** وطبيب ذاك العالم الرباني
فالتقليد هو الداء والبلاء في كل زمان ومكان وعند كل أمة، فالمقلِّد ليس بطالب علم فضلا عن أن يكون شيخا أو عالما كما ذكر ذلك الأئمة -رحمهم الله تعالى-، بل لا فرق بينه وبين بهيمة تنقاد بين جنادل ودعاثر كما بيّن هذا أهل العلم -رحمهم الله-.
فاحرصوا -رحمكم الله- على تعلّم العلم وأخذه من مصادره وأخذه بدلائله، ولْتَكن الحقيقة التي لا يجوز أن تغيب عنا وعن بصائرنا هي قول الإمام مالك -رحمه الله تبارك وتعالى ورضي عنه-: (ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر) كل واحد يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه هو الوحيد الذي لا يُرد عليه -عليه الصلاة والسلام- كما قال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾، وكما قال جل وعلا: ﴿وَإن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾.
فالواجب علينا وعليكم جميعا: تعظيم الأدلة؛ تعظيم النصوص والأخذ بها واتباعها، فإذا بان للإنسان الحق أخذ به.
أقول: إذا تبيّن للإنسان الحق وجب عليه أن يأخذ به، وذلك لأنَّ الحق كما قلنا إنما هو معرفة الهدى بدليله، فإذا تبيّن للإنسان الحق وجب عليه أن يأخذ به ولو خالفه من خالفه، فإنَّ معرفة الحق بالدليل هذا الذي يجب عليك أن تأخذ به، نعم.
أقول: إذا تبين للإنسان الحق بالدليل وجب عليه أن يأخذ الدليل ويدع ما خالفه كائنا من كان، فإنَّ العلم كما قلنا إنما هو:
..... معرفة الهدى بدليله *** وما ذاك والتقليد يستويان
هذا هو الواجب علينا، ومن خالف الدليل رُدَّ قوله كائنا من كان، فإن كان من أهل العلم حقًّا رُدَّ قوله مع حفظ كرامته، وإن كان متطفلا عليه وليس من أهله رُدَّ قوله وبُيّن جهالته وبُيّن للناس منزلته حتى لا يفتتنوا به، فإن هؤلاء هم الذين يَضلّون ويُضلّون وهم الذين عناهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله في الحديث الصحيح في الصحيح: (إن الله لا ينزع هذا العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يَبْق عالمٌ أو لم يُبقِ عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأضلُّوا)، والرؤوس الجهال هؤلاء شرّ على أمة الإسلام، فالواجب التحذير منهم وبيان حالهم للناس لأنهم يتشبّهون بأهل العلم وليسوا من أهل العلم فيقعون في الضلال بسبب جهلهم ويُوقعون غيرهم في الضلال بسبب انخداع الناس بهم واغترارهم بهم، فالواجب النصيحة لأمة الإسلام لأن هؤلاء هم الرؤوس الجهال الذين يَضلّون ويُضلّون، عياذا بالله من ذلك.
فهؤلاء لا يُتَّبعون، ولا يُنظر إليهم فضلا عن أن يُعظّموا أو يُظهَروا للناس بأنهم في مصافّ العلماء الذين يرجع الناس إليهم أو يستفيدوا منهم، بل هؤلاء فتنة، نسأل الله العافية والسلامة، فيجب التحذير منهم كما حذر منهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ البلاء كل البلاء أن يأتيَ هؤلاء المتصدّرون والذين ليسوا من العلم في شيء لا في قبيل ولا دبير ولا قليل ولا كثير ولا في العير ولا في النفير فيتصدَّون لتعليم الناس وهم غير متأهلين ليسوا بأهلٍ للعلم ولا من أهل العلم فيَضلّون في أنفسهم ويُضلّون كثيرا من الناس، فهؤلاء النصيحةُ توجِب على الناصح أن يُبيّن حالَهم للناس حتى لا ينخدع الناس بهم ويحذَروهم ولا يثقوا بهم ولا يأخذوا بأقوالهم لينجوا بإذن الله تبارك وتعالى من الوقوع في حبائلهم، فأهل العلم معروفون وسماتهم معروفة وأهل الجهل معروفون وسماتهم وعلاماتهم معروفة يظهر هذا وهذا لكل من نوّر الله بصيرته.
فأوصيكم معشر الأحبة بالوصية الثالثة التي هي:أخذ هذا العلم عن أهله وتلقّيه على أيدي أهله فإن هذا هو صمام الأمان بإذن الله تبارك وتعالى، هذه هي الوصية الثالثة، الأولى في الصبر على البلاء في هذه الدنيا وأنها دار ابتلاء واختبار، والثانية أنه لا يمكن أن يُعرف ذلك إلا بالطريق الصحيح الذي يُعرف به هذا وهو العلم، والثالثة هي تحصيل هذا العلم الذي يُعرف به هذا الطريق الصحيح؛ فإنَّ هذا العلم دين -معشر الأحبة- فانظروا عمن تأخذون دينكم، فيُؤخذ العلم على أهله لا على المدّعين؛ لا على الأدعياء الجهلة ولا على الصعافقة وأمثالهم، وإنما يُؤخذ على أيدي أهل العلم الذين عُرفت منزلتهم واشتهرت بين الناس مرتبتهم وشهد لهم الناس بالعلم وأثبتت الأيام صدق هذه الشهادة.
ومعلوم أيضا أننا في هذا الزمان قد كثُرت هذه الدعوى والتزكيات التي إذا نظرت إلي حقيقة أصحابها وجدتها على خلاف هذه التزكيات، والمزكي معذور إنما شهد على ما علِمَ؛ فإذا شهد بشيء علِمه ثم ظهر بعد ذلك خلافه فالحكم لما ظهر دليلُه ونقول: إن ذاك إنما شهد على ما علم والنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنما أنا بشر أقضي على نحو مما أسمع)، وقد ثبت من كلام أهل العلم جميعا ومن هؤلاء شيخنا الشيخ ربيع -حفظه الله- أنه كان يقول: يأتيني الرجل ويمكث عندي مدة وأزكيه على ما ظهر لي منه ثم بعد ذلك يظهر لي منه أنه على غير ذلك، فهكذا أهل العلم جميعا؛ ما من إنسان إلا ويحصُل له من التزكية من هذا القبيل ثم يتبين بعد ذلك حال ذلك المزكى وأنه على غير الصواب وأنه على غير الطريق وأنه على غير هدى، فلا يضر ذلك العالم أن يكون قد زكى هذا الإنسان ثم ظهر للناس ورآه الناسُ عيانا رأوا جهلَه ورأوا انحرافه ورأوا تخبّطاته فحينئذ يُعذَر العالم ولا يُؤخذ بمثل هذا، بل العالم نفسه حينما يُعرض عليه مثل هذا يقول: أنا بالأمس شهدت بما علمت، فنقول: صدق وهو معذور وإنما شهد بما علم وليس يُكلَّف بأكثر من هذا.
فأوصيكم معشر الأحبة: أن تعتنوا بهذا الجانب وهو أخذ العلم عن أهله لا عن الأدعياء الجهلة الذين يدّعونه وليسوا منه في شيء، وقد أظهرت الأيام وتُظهر الأيام وتُظهر فتاواهم ما عند هؤلاء وتُظهر كلماتهم ما عندهم، فأمثال هؤلاء لا يُؤخذ عليهم العلم، يقول الإمام مالك -رحمه الله -في زمانه: (أدركت سبعين في هذا المسجد كلهم لو وُلّي بيت المال لكان أمينا لكن لم آخذ عنهم حتى جاءنا محمد بن مسلم بن شهاب الزهري فابتدرناه وذلك لأنه كان يدري هذا الشأن) يعني علم الحديث والسنة، فما كل من انتسب إلى العلم صُدّق، ولا كل من قيل فيه إنه عنده علم صُدّق حتى يُنظر كما قلنا مرارا:
وما حوى الغاية في ألف سنة *** شخص فخذ من كل فن أحسنه
بحفظ متن جامع للراجح *** تأخذه على مفيد ناصح
والمفيد: هو من نصَّ أهل العلم والمعرفة وتواطأت شهاداتهم له بأنه مفيد وأثبتت مجالسه ودروسه وشروحه أثبتت صدق ما يقول أهل العلم فيه؛ هذا هو المفيد، أو يستفيض بين الناس عامة ويشتهر بينهم بالعلم ويثبت ذلك عند العلماء أيضا يشيع بينهم فيكون شائعا بين العام والخاص أنه مفيد، هذه الطريقة التي يثبت بها أن هذا الإنسان عالم أو أن هذا الإنسان شيخ أو أن هذا الإنسان أستاذ مدرس يُؤخذ على يديه ويُستفاد منه ولابد أن يكون ناصحًا، والناصح هو الذي يبتدرك بالنصح إذا رآك محتاجا إليه وإن لم تسأله إما حياء أو جهلا بالمسألة، أو أنك تسأله فتجد عنده النصح وتجد عنده التوجيه وتجد عنده الإرشاد، فهؤلاء هم الذين يُؤخذ عنهم معشر الأحبة، فلابد من الأخذ على أيدي هؤلاء والبعد عن الصنف الأول الذي ذكرنا وهم الأدعياء أدعياء العلم؛ فإن أدعياء العلم يضرون لأنهم قد ضلوا في أنفسهم فيُضلون غيرهم، نسأل الله العافية والسلامة.
فلنتنبَّه معشر الأحبة، ولنعلم أن هذا العلم كما قال سلفنا الصالح دين فلا نأخذه إلا عن أهله، ولنبتعد عن الأدعياء، عافانا الله وإياكم من ذلك، فإن أدعياء العلم هم الذين يُوقعون الناس في الضلال ويوقعونهم في الشر ويوقعونهم في الفتن، وعليكم -ولله الحمد- عليكم بمن عندكم أيضا من أهل العلم في بلادكم استفيدوا منهم من مشايخكم أمثال العلامة الشيخ فركوس وإخوانه معه؛ استفيدوا منهم فإنهم من علمائكم المعروفين عندكم وقد ذكرت ذلك فيما كتبته به إليكم معشر الأحبة في بلاد الجزائر وهو مكتوب عندكم مشهور، فمثل هؤلاء هم الذين يُرجع إليهم في بلدكم وتستفيدون منهم مع العلماء الآخرين في بقية العالم الإسلامي وخاصة في بلاد الحرمين الشريفين التي حباها الله ومن عليها بوجود أهل العلم ولله الحمد، فهؤلاء هم الذين يُؤخذ عنهم ويُتلقَّى على أيديهم، هؤلاء العلماء هم الذين يُفيدون الناس وهم الذين ينفعون الناس وهم الذين يُرشدون الناس وهم الذين يُوجهون الناس وهم الذين يبتدئون الناس ببيان ما ينفعهم ولو لم يسألوهم وذلك حينما يرون حاجتهم إلى هذا العلم وإلى هذا التوجيه، فاحرصوا رحمكم الله على هذا.
والوصية الرابعة التي أوصيكم بها: أن تبتعدوا عن أسباب الفرقة والاختلاف وتلزموا مشايخكم عندكم وتتعلمون عليهم ممن ذكرت لكم الآن آنفا وفيما كتبت به إليكم ومن كان معهم من المشايخ ممن لم أعرفهم؛ فإنكم إذا وصلتم إلى من ذكرت لكم سيدلونكم على من تأخذون عليه وتتلقون على يديه وتجلسون بين يديه؛ فإنهم أعلم في بلادكم بمن هو أهلٌ لذلك منا، المراد أن هؤلاء الذين ذكرت هم إخوانكم ومشايخكم فالتفوا عليهم وخذوا عنهم وتلقوا عنهم واجلسوا بين أيديهم واستفيدوا منهم، واحرصوا على البعد كما قلت لكم عن أسباب الاختلاف والفرقة، وأما صاحب الباطل فلا والله لا أوصيكم بالقعود إليه ولا الجلوس إليه وإن فعلتُ ذلك كنت غاشا لكم ومعاذ الله أن أكون كذلك،فأذناب الصعافقة وأمثالهم لا والله لا يُجلس عليهم ولا نعمة ولا كرامة.
وأما أن يُقال إننا دعاة إلى الفرقة فكذَب والله الصعافقة الذين يقولون عنا ذلك، واللهُ يشهد وكفى بالله شهيدا، والله يعلم وكفى به عليما، والله سبحانه وتعالى الوكيل لكم علينا ولإخواننا المسلمين في كل مكان وكفى بالله وكيلا أننا نسعى إلى الألفة والائتلاف والمحبة والأخوة؛ نسعى إلى ذ طلك كله بأقوالنا وأفعالنا وأوقاتنا وأعمارنا بل وأموالنا والله يعلم ذلك منا وكفى بالله عليما، وإذا كان الله يعلم ذلك منا فلا عبرة بمن تكلم فينا؛ والله لا وزن له عندنا ولا قيمة له إذا بَهَتنا ولن يضرنا شيئا ولن يضر إلا نفسه، هؤلاء الصعافقة الذين الآن ينشرون مثل هذا وهم يعلمون وقد كانوا يعرفون ذلك قبل أيام ولكن ﴿جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾،﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفينا وإياكم والمسلمين شرهم؛ فمن مَكر مُكر به.
والله يعلم منا ثم عبادُه أهل الإيمان يعلمون منا ذلك وأننا نسعى دائما أوبدًا إلى الألفة، وأما أهل الباطل فلا والله لا ألفة معهم حتى يعودوا إلى الحق، وما يُشاع عنا أنا أبينا من الائتلاف عندكم في الجزائر فكذبٌ علينا والله يعلم ويشهد على ذلك وكفى بالله عليما، وقد كان مع أخي الدكتور عبد المجيد جمعةوكنا عند شيخنا الشيخ ربيع بن هادي حينما ذُكر أهل الجزائر وقيل فيهم ما قيل قال: (لا تقعدوا معهم وردوا عليهم وأنشئوا لكم مجلة غير مجلتهم ولا تجالسوهم حتى يتوبوا)، هذه فتواه سمعته منه بحضرة أخي الدكتور عبد المجيد والله يشهد على ذلك وكفى بالله شهيدا والله يعلم ذلك وكفى بالله عليما والله وكيل لكم عليّ فيما أقول وكفى بالله وكيلا.
فما قلت إلا مثل ما قاله الشيخ ربيع، فكيف يُفترى علي ويُقال: إنني أدعو إلى الفرقة وأدعو إلى عدم الاجتماع؟!كَذَب والله هؤلاء الصعافقة، والله إن هذا لمن إفكهم المبين والموعد بيني وبينهم بين يدي الله جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية.
فليُعلم هذا الكلام أقوله لكم لأن هذه المسألة عندكم قد أُضرمت نارها واشتدّ أُوَارها فأحب أن أضع كما يقال النقاط على الحروف حتى يعلموا، وأنا مستعد للمباهلة أمام بيت الله المعظم لكل من يُنكر ذلك، ولا أظن أظن أنني محتاج إلى المباهلة ومعي من يشهد ولله الحمد، فقد كان معي أخي الدكتور عبد المجيد جمعة وكان هذا كلام شيخنا لنا -وفقه الله وختم لنا وله بخير- فكيف يدعي هؤلاء الصعافقة أنني داع إلى عدم الاجتماع وأدعو إلى الفرقة!﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾، والله سبحانه وتعالى إذا علم مني ذلك فلا يضرني ما يقولوه الكذابون وإذا اطلع مني على ذلك فلا يضرني ما قاله الأفاكون.
ولله الحمد الناس شهداء الله في أرضه، ومن آخر ما يشهد لي به الناس جميعا موقفي في الصلح بين إخواننا وأبنائنا في أندونيسيا فقد مكثت معهم أكثر من 15 سنة قرابة 17 عاما وأنا أحاول التأليف بينهم وشيخنا الشيخ ربيع كان بمكة وتارة يذهبون إليه ويعيدهم إلي وتارة يأتون إلي وأعيدهم إليه حتى أتى الله بشيخنا إلى المدينة وجاء هؤلاء جميعا واجتمع الطرفان ففرحت بذلك وجئت إلى شيخنا وأخبرته بذلك فوافق -وفقه الله- على أن نجتمع عنده فاجتمعنا عنده وكان ما كان وسُجّلت التسجيل وهو موجود ولله الحمد يشهد بصدق محمد بن هادي، فمن زعم غير ذلك فليُخرجوا التسجيل وهو موجود وليستمعوا ما فيه، ثم فُرّغ ما فيه بعد ذلك بالحرف ثم نُشر وهو شاهد لي ولله الحمد بأنني أدعو إلى الألفة وأسعى إليها بكل ما أستطيع ومسجدي يشهد بذلك وجماعة المسجد عندي بالمدينة يشهدون بذلك، فما أكثر الوفود الذين يفدون علي من كل مكان وأسعى إلى الصلح بينهم بِقالي وفعالي وجاهي ومالي ثم يُقال بعد ذلك إني أدعو إلى الفرقة؟! الله الموعد بيني وبين هؤلاء الصعافقة الكذابين جميعا يوم نقف بين يديه سبحانه تعالى حفاة عراة غرلا بُهما فيقتص للمظلوم ممن ظلمه سبحانه تعالى آمنت به وعليه توكلت.
فالشاهد: أصلحنا بين الأندونيسيين، وبعدما ما أصلحنا بينهم وقفّوا من عندنا إلى ديارهم ما علمنا إلا وقد تبعهم بعض الصعافقة الكذابين ونشروا فيهم ما نشروا ثم بعد ذلك أججوا النار مرة أخرى ونقضوا هذا الصلح، عياذا بالله من ذلك، فهم الذين يسعون في الإفساد والفساد وإثارة الفرقة ويُقال محمد بن هادي يسعى إلى عدم الاجتماع! ويدعو إلى عدم الاجتماع! هذا والله من إفكهم وكذبهم البيّن، ونسأل الله العافية والسلامة.
فاحذروا هؤلاء الصعافقة، والتفوا حول مشايخكم الذين ذكرتهم لكم، وما قالوا ذلك إلا لأنني أثنيت على أصحاب الفضيلة المشايخ عندكم فحنقوا عليّ وضاقت صدورهم بسبب ذلك مع أنني لم أتكلم في أحد وإنما أوصيت بمن أوصيت وإيصائي بمن أوصيت ليس في ذلك طعنا في غيره فإنما علمت أنا هؤلاء وإذا لم أعلم غيرهم فلا يضيرهم عدم علمي كما قيل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (مات فلان وفلان ممن لا تعلمهم والله بهم عالم كانوا يُدوّون بالقرآن إذا جن الليل دوي النحل)، فالذي لا أعلمه لست مخاطبا بالكلام فيه وليس يعني إغفالي له أنني أجرحه، وأما الصعافقة فلا والله والله لا والله لا نجتمع وإياهم أبدا حتى يتوبوا عما هم عليه ويرجعوا إلى الحق، فإن لم يتوبوا عما هم عليه فإنا ساعون في كشفهم وبيان انحرافهم وبيان جهالاتهم وبيان ضلالاتهم وبيان شرهم وفتنتهم للناس في كل مكان حتى يحذروهم؛ فإنهم قد تسلموا غارب الدعوة وأفسدوا فيها فلم يسلم منهم شيخ ولم يسلم منهم عالم إلا ما ندر ولولا أن بعض أهل العلم له مكانة لما سلم منهم، فنحن نعوذ بالله من هذه الأخلاق وهذه الأفعال الذميمة التي يسلكها هؤلاء.
فاحذروا الفرقة معشر الأحبة، والتفوا حول مشايخكم وأخص بالذكر منهم الشيخ فركوس وإخوانه الذين ذكرتهم فإنهم مشايخكم، وارجعوا إليهم، واعرفوا لهم قدرهم واحترموهم واستفيدوا منهم وهم سيدلونكم بإذن الله؛ لأننا نعتقد فيهم النصح ونعتقد فيهم الصدق ونعتقد فيهم الديانة نحسبهم كذلك والله حسيبهم، ارجعوا إليهم وهم سيدلونكم ويبصرنكم بمن تأخذون عليه وتستفيدون منه وتتعلمون على يديه هذا ما أوصيكم به، ولا تستمعوا لهؤلاء الذين يُريدون أن يفرقوا كلمتكم ويشقوا صفكم ويوهنوا كلمتكم؛ لا تلتفتوا إليهم وامضوا فيما أنتم فيه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ،وأن يثبتنا وإياكم على الحق والهدى حتى نلقاه، وأن يعيذنا وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا وإياكم ممن علم وعمل وأن ينفعنا وإياكم بما علمنا إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى أصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
فرّغه:/ أبو عبد الرحمن أسامة
27 / من ذي القعدة / 1439هـ
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
كلمة توجيهية للإخوة السلفيين بمدينة باتنة
ألقاها:
فضيلة الشَّيخ العلَّامة:
محمَّد بن هادي المدخلي
حفظه الله تعالى ورعاه، وثبته على الإسلام والسنة، وجزاه عنا خير الجزاء
تفريغٌ لكلمةٍ ألقاها فضيلته عبر الهاتف على أبنائه السلفيين بمدينة باتنة بالجزائر،
وذلك ليلة الخميس 27 من ذي القعدة 1439هـ
أسألُ الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها الجميع
لتحميل الصَّوتيَّة: مِنْ هُنَا
التَّفريغ