بيان بعض صور التشغيب والتخذيل من المذبذبين والمناوئين للحقّ وأهله –الحلقة الأولى-
قال أبو عبدالله بن منده رحمه الله :كَتَبْتُ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ وَسَبْعِ مَائَةِ شَيْخٍ وطُفت المشرقَ والمغرب فلم أقْرَبْ أو أتقرٌب إلى كلِّ مُذَبْذَبْ ولم أكتب عن المبتدعين حديثاً واحداً.
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد جاء في الصّحيحين عن معاويةَ رضيَ الله عنه قال : سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول: " لا يزال من أمتي أمّةٌ قائمةٌ بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتيهم أمرُ الله وهم على ذلك " .
وفي لفظ : " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ، ظاهرين على من ناوأهم ".
والطائفة المنصورة والفرقة الناجية هم أهل السنة السلفيين ، قال النووي رحمه الله : وأما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم.
وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهلَ الحديث فلا أدري من هم.
وقال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهلَ السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث ...اهـ
فالمتأمل في أهل التخذيل والتشغيب، والمتذبذبين المناوئين المخالفين للمنهج السلفي الذين لا للسنة نصروا ، ولا لأهل البدع والأهواء كسروا ، والذين أرادوا أن يمسكوا العصا من الوسط –كما يقال- ، ففيهم صفةُ التلوّن ، واللفّ والدوران والمراوغة ، وذلك لأنهم عبارةٌ عن وجهين لعملةٍ واحدة ، ويمشون على الحَبْلَيْن ، ويأكلون على الشِّدْقَيْن.
والسّبب في ذلك ظاهرٌ جليّ غيرُ خفيٍّ على كلّ ذي لبّ ، وهو : أنهم يَحرِصون أشدَّ الحِرص على التكتّم والخفاء وعدمِ إظهار مايخفونه في أنفسهم ومجالسهم المغلقة ،وذلك خشية أن يفضحوا وتتخطّفهم الشهبُ السلفيةُ من الردود العلمية.
لذا وتلك بين الفينة والفينة يثيرون الغبار على الحقّ وعلى أهل الحق بأساليبَ فاجرة كما سنبيّن بعضاً منها –بمشيئة الله- وهم في ذلك مثل العقارب متى تمكّنوا لدغوا ،وقصدهم في ذلك التشويش والمشاغبة والطعن واللمز في علماءِ السّنّة بالوسوسة والحدَّادية وغيرها من العظائم،وهكذا أيضا في تجييش الجيوش في فتح جبهات ضدهم،وحربهم وتشويه سمعتهم ،ورميهم بالعظائم ،-كما سنبيّن ذلك في حلقات أخرى -بمشيئة الله-.
مذبذبين لا إلا هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء متى رجحت الكِفّةُ كانوا معها ، قال تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [سورة النساء آية : 143]
ولهم نصيب والحظّ الأوفر في وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم بقوله : " مَثَل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تَعِيرُ في هذه مرة وفي هذه مرة لا تدري أيها تتّبع ".
ويدخلون ضمنا بل دخولا أوّليًّا ماجاء عن أبي هريرة رضيَ الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنّ شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ".
وفي لفظ : " من كان ذا وجهين في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة ".
فأهل التشغيب هم أهل المخاصمة وأهل المفاتنة وأهل العناد للحق وعدم قَبوله والانصِيَاعِ له.
وهم الذين لبسوا لباس السّنّة السلفية في الظاهر، وتظاهروا مع خصوم السّنّة بالعدل والإنصاف والوسطية والاعتدال وعدم الغلوّ والإجحاف تلبيسا وتدليسا وزورا وكذبا.
وقد كان النّبيُّ صلى الله عليه وسلّم يتخوّف أشدّ التخوّف على أمته من المنافقين الذين يجادلون بالقرآن ويلبسون الحقّ بالباطل وهم يعلمون، كحال الصعافقة الذين يلعبون على الحبلين ويأكلون على الشدقين بالقواعد السلفية في تقديم التعديل على اطلاعهم على الجرح المفسّر المعتبر، بل يحاربون الجارح بعدما كانوا يُلقِّبونه بالعلاّمة والشيخ الفاضل ونحو ذلك، ويسعون أشدّ السعي في إسقاطه وتشويه سمعته ، وهكذا أيضا في إخراج التزكيات لمن جرحه بطرق فاجرة يخجل منها كبار أهل البدع، فعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان ".
ومن المعلوم أنّ كلّ من كان أقربَ إلى أهل السنة وعنده مخالفات وانحرافات يكون خُبثه ،وخطره ،وشرّه أعظم وأخطر وأشنع وأقبح من غيره من الواضحين من أهل الأهواء والبدع ،فانتبهوا وتنبّهوا يا معاشر أهل السنة من شراك وحبائل هؤلاء.
ومن هذه الحيثيّة قرّر أهل السنة أنّ أهلَ البدع أشرُّ على أهل الإسلام والإيمان من اليهود والنصارى.
لأنّهم يفتكون بالمنهج السلفي من الداخل ، ويتظاهرون بالخير والصلاح وباسم الدعوة السلفية والوسطية والاعتدال، لكن شواهد الامتحان تخذلهم وتكشف زيفَهم ،وخُبثَهم ، وسوءَ طويّتهم.
ولهم مواقفُ غيرُ مشرِّفة ، بل خناجرُ تَنْخَر في ظهور أهل السّنّة ولهم سلف في ذلك –وبئس السّلف- وهم أهلُ النّفاق والشّغب، وهذه سنّة سَنّها الله تعالى في هؤلاء المتذبذبين المندسّين على عبر التاريخ والأيام والليالي.
لكن، لكن الحق منتصِر وممتحَن فلا ** تعجب وهذي سنة الرحمن
والقضيّة ومافيها وما عليها ليست في النّصوص الشرعيّة -فحاشا وكلّا ولا لعلّ- وإنّما في توظيف وتنزيل هذه النّصوص من كتاب الله على مراد الله تعالى ،وما صحّ من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وهكذا أيضا على فهم سلفنا الصالح، سواءٌ كان ذلك في مسائل الجرح والتعديل أو الهجر فضلا عن مسائل الاعتقاد ونحوِ ذلك من الأحكام الشرعية.
فعن عقبة بن عامر الجهني رضيَ الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " هلاك أمتي في الكتاب و اللبن . قالوا : يا رسول الله ما الكتاب و اللبن ؟ قال : يتعلمون القرآن فيتأوّلونه على غير ما أنزل الله عز وجل ، و يحبون اللبن فيدعون الجماعات والجمع ، ويبدون ".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله ".
فهذه بعض الأسباب التي تحلّى بها أهل التخذيل من المناوئين للحقّ ، أحببت أن أذكرها باختصار شديد ، للحذر والتحذير منها ، ولعلّ الله أن يكتبَ لنا المثوبة على ذلك ، إنه جواد كريم.
أسباب وبعض صور التخذيل والتشغيب ومناوءةِ الحق وأهلِه:
أوّلا :
قرب العهد بالبدعة :
إن المتتبّع لكثير من أهل الشغب ،والتخذيل يجد السببَ واضحاً جليّاً لا يخفى على كلّ ذي لبّ وهو : أنهم قريبوا عهد بالبدعة ، والأحزاب المضلة ، فانتقل من البدعة إلى السّنّة في الجملة ، لكن بقيت فيه رواسب من ذلك ، فعوض أن يتدارك نفسه ويرحمَ روحه التي بين جنبيه ويتعلّمَ ويُثْنِيَ الرُّكَبَ بين يدي أهلِ العلم ويُزيلَ مابقيَ فيه من الرّواسب ، ذهب ينظّر ويقعّد قواعد فاسدة باطلة ،ورجوع أبي حسن الأشعري رحمه الله إلى مذهب أهل السّنّة في الجملة ،مع مابقي فيه حقه من بعض الرواسب دليل على ذلك ، وهكذا قصة ذات أنواط دليل على ذلك أيضا .
ثانيا :
عدم الحرص على الصفاء في مصادر التلقّي ، سواء كان ذلك في ثنيِ الركب عند أهل الأهواء والبدع ،أو عن طريق قراءة كتبهم ،وسماع أشرطتهم ودروسهم ومحاضراتهم.
كم وكم عرفنا من إخواننا الذين كانوا يلتقون معنا ونلتقي معهم على هذا المنهج السلفي الطيّب المبارك ، فحصل ماحصل منهم من التشغيب والتخذيل والمخالفة والمناوءة لأهل الحق ، والسبب في ذلك كما ذكرته آنفا هو: أن مصادر التلقّي عندهم ملوّثة ، وبالأخص في القراءة وسماع الأشرطة ،لأنه أحيانا يصعب عليهم السماع الشفهي والحضور المجلسي عند المخالفين لأنهم يدركون تمام الإدراك أن السهام والردود تنهشهم وتفضحهم ويبيّن حالهم من كلّ جانب.
ثالثا :
عدم نصرة الردود العلمية، والشهب السلفية على المخالفين لشرعة رب العالمين جل وعز، بل وتخذيل ذلك بطرق ملتوية ظاهرها الرحمة من العدل والإنصاف –المزعوم-، وباطنها العذاب من التثبيط ،ومحاربة الحقّ وأهله باسم التشدّد ، وعيبهم بكثرة الردود ، ورميهم بالحدادية المغلّفة ، والحدادية البيضاء كما تشدّق بها أحدهم –عفا الله عنه-.
رابعا :
عدم الانقياد لما قرّره السلف وأجمعوا على مجانبة أهل الأهواء والبدع ومن عدم السّماع لهم ،وإقصائهم ،وإذلالهم ، والبعد والابتعاد عنهم .
ومن كان هذا حاله وجب الحذر والتحذير منه بعد إقامة الحجة وبيان المحجّة ، لأن الذي يجالس أهل السنة وهكذا أيضا أهل الأهواء والبدع يكون حاله أخطر من أهل البدع كما قرّره السلف منهم عبد الله بن سهل التستري وغيره من أئمة الإسلام.
ووالله كم وكم وكم رأينا من إخواننا السلفيين الذين يأتون من دولة الجزائر ومن غيرها من الدول إلى هذا البلد المبارك -أعزّه الله بالسنة والتوحيد- وكانوا على خير عظيم من السنة والسلفية الحقّة ، وقد خالفوا هذا الأصل الأصيل والركن الركين بحجج واهية ، منها الاستفادة من هؤلاء في علوم الآلة ونحو ذلك من الشبة الشيطانية ، وبعد زمن يسير إلا وتغيروا وبدلوا وضلوا وانحرفوا ، وليتهم وقفوا عند هذا الحدّ ، بل فجروا وحاربوا إخوانهم السلفيين وعلماء السنة ورموهم بعظائم الأمور ، بالتشدّد وكثرة الرّدود ، بل بالطعن فيهم والكذب والفجور في حقّهم.
خامسا :
يلعبون ويتلاعبون بالقواعد السلفية كما تهوى أنفسهم ، لا على مراد الله تعالى ، ولا على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا على فهم الصحابة رضي الله عنهم ، وهكذا أيضا لا على ماقرّره السلف الصالح ، من ذلك ردّ الجرح المفسّر المبيّن المعتبر على التعديل.
ومن المقرر شرعا أن أهل العلم إذا اختلفوا في الرجل جرحا وتعديلا وكان مشهورا بالسنة، فينظر إلى جرح الجارح فإذا كان مفسرا مبينا معتبرا -كحال هؤلاء الصعافقة- فإنه لا يجوز العدول عنه ولا عبرة بتعديل المعدلين ولو كانوا عشرات بل المئات بل الآلاف من فحول العلماء.
وهذا يعرفه حتى أطفال أهل الحديث فضلا عن طلبة علم فضلا عن علماء أجلاء، فالذي "علم حجة على من لا يعلم"، " كما أن عدم العلم ليس علماً بالعدم.، و "من رأى حجة على من لم ير" و"من أثبت شيئًا حجّة على من نفاه" ,و"زيادة الثقة مقبولة " و "المثبت مقدّم على النافي" لأنه معه زيادة علم ،و من "حفظ حجة على من لم يحفظ"
وقد بيّنت هذه المسألة بشيء من البسط في مقال معنون بــ:" الشهب السلفية في نقض الشبهات الحلبية ..الحلقة الثامنة"
وقد صنّفت في ذلك مصنّفات فيها جملة من أقوال أهل العلم السابقين واللاحقين في وجوب تقديم الجرح المفسر المبين المعتبر على التعديل ،فلتراجع.
وهكذا أيضا من صور التشغيب والمشاغبة التي عرف بها الصعافقة يسعون في جمع التزكيات للمجروحين مع بيان أسباب الجرح من قبل المجرّحين من أهل العلم والفضل.
إن معارضة العلماء الكبار في فتاويهم وجرحهم لمن يستحقون الجرح بالحجج والبراهين بهذه الأساليب الماكرة والتقدّم بين أيديهم في تقعيد القواعد الباطلة الفاسدة التي ما أنزل الله بها من سلطان،
ومن الخوض في مسائل هي أكبر حجما من هؤلاء ، وفوق مستواهم ، كما هو صنيع الهابط وخدينه والبليدي الفاجر في الخصومة وغيرهم ممن هم على شاكلتهم مع علمائنا عالم قارة أفريقيا بصدق وحقّ محمدعلى فركوس ،وعبد المجيد ولزهر وغيرهم ، وهكذا أيضا مايفعله الصعافقة مع شيخنا محمد بن هادي حفظه الله ،لمن سوء الأدب معهم، ومن قلّة الفهم في دين الله تعالى ،ومن علامات الحرمان والعياذ بالله.
والذي لا يعرف قدر نفسه كيف يعرف قدر غيره،ولا يعرف الفضل إلا ذووه
والله الذي لا إله إلا هو كنا نجتمع مع مشايخنا ربيع ويحيى النجمي وزيد المدخلي وعبيد الجابري وصالح الفوزان وغيرهم رحم الله من مات منهم وحفظ من بقي
الشاهد : أننا لا نستطيع أحيانا والله حتى طرح الأسئلة عليهم،وذلك من مهابتهم وإجلالهم واحترامهم
فضلا أنهم اذا نبّهونا على أخطائنا وهفواتنا يكون منا العقوق والعصيان من مجابهتهم ورميهم بالعظائم وسوء الألفاظ والعبارات ،فضلا عن الرد عليهم المتضمّن الظلم والجور،والأسوء من ذلك وأقبحه توعّدهم بالردود وكشف حالهم، كما هو حال الصعافقة.
اللهم سلّم سلّم
قال شيخنا ربيع بن هادي حفظه الله : كثير من أهل الضلال الآن يذهبون إلى بعض العلماء ويتظاهرون لهم بأنهم سلفيون حتى يأخذوا منهم تزكيات ؛!
فيأخذون من هذه التزكيات أسلحة لضرب المنهج السلفي ومُصارعة أهله ؛..
ذهب بعض أهل الباطل والجهل إلى بعض علماء المنهج السلفي واختطفوا منهم تزكيات بِطُرُق لايعلمها إلا الله ، لِمَآرب دنيئة،
وهو : التلاعب بعقول الشباب باسم هذه التزكيات ؛
لانتزاعهم من المنهج السلفي وصدِّهم عن هذا المنهج؛ ورميهم في هوة الحزبية الضالة والعياذ بالله؛
وهذا جارٍ عندكم وأنتم تعرفونه .
فعلى الشباب : أن يتنبّه لهذه القواعد أن يتنبّه لهؤلاء المتلاعبين الذين يتلاعبون بعقول الشباب وبعواطفهم ، ويتلاعبون بقواعد الإسلام وأصوله ونصوصه.[1]
سادسا :
التّوسع في باب مناصحة المخالف فضلا عن مناظرته ، فوقع اللبس والزلل والعطب ، وذلك لأن الناصح ليس متأهلا ولا متضلعا بالعلم الشرعي في ردّ الشبهات ،يذهب ليغيّر فيتغيّر.
*وهكذا أيضا في باب المناظرات لأهل الأهواء والبدع بغير ضوابط شرعية ، ولا حدود مرعية.
قال الإمام اللالكائي رحمه الله : مبيناً ما جنته مناظرة المبتدعة من جناية على أهل الإسلام والإيمان، مقارناً بين حال المبتدعة في العصور الأولى ، وما كانوا عليه من ذلّ وهوان وصغار،
وكيف أصبح حالهم عند بعض المتأخرين من صولة وجولة وجاه حتى أصبحوا أقراناً لأهل السنة في نظر العامة ، في بعض الأعصار والأمصار.
قال رحمه الله : فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة، يموتون من الغيظ كمداً ودرداً ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً، وصاروا إلى هلاك الإسلام دليلا، حتى كثرت بينهم المشاجرات، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة حتى تقابلت الشبه في الحجج، وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقراناً وأخدانا، وعلى المداهنة خلاناً وإخوانا، بعد أن كانوا في الله أعداء وأضداد وفي الهجرة في الله أعواناً يكفرونهم في وجوههم عيانا، ويلعنونهم جهارا، وشتان ما بين المنزلتين وهيهات ما بين المقامين.[2]
سابعا :
من صور التخذيل والمشاغبة أيضا : أنه إذا قام بعض العلماء وطلبة العلم بالردّ على المخالف بالحجج والبراهين الساطعة النيّرة التي مثل الشمس في رائعة النهار ، ويأتي هذا المخذّل يأمر بالسكوت ، والابتعاد عن ذلك ويسميها :"فتنة يجب اعتزالها"
فمما يجب أن يعلم أن الفتن التي يجب اعتزالها وأمر الشارع الحكيم بالبعد منها هي التي التبس الحق فيها من الباطل ، ولم يعرف الظالم من المظلوم، أما إذا كان غير ذلك فهذه من صور تخذيل الحقّ وأهله.
أهل العلم إذا كتبوا وردوا بينوا حال المخالف بالحجج والبراهين الساطعة النيّرة ، وتبيّن الحقّ من الباطل ، فيجب قبول الحقّ ونصرة أهله ، ورد الباطل ودحضه ومجانبة أهله إما كليّا ، وإما جزئيا على حسب الخطأ وحجمه ،ونصرة المحقّ على الباغي بما توجبه الشريعة ، وبيان ذلك ليس هذا موضع بسطه وإيضاحه.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كما في مجموع الفتاوى والمقالات ( 7 / 363 ) : " ... الأحاديث المتعلقة بالفتن والتحذير منها محمولة عند أهل العلم على الفتن التي لا يعرف فيها المحق من المبطل , فهذه الفتن المشروع للمؤمن الحذر منها , وهي التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " القاعد فيها خير من القائم , والماشي خير من الساعي " الحديث . أما الفتن التي يعرف فيها المحق من المبطل والظالم من المظلوم فليست داخلة في الأحاديث المذكورة , بل قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب
والسنة على وجوب نصرة المحق والمظلوم على الباغي والظالم , .... إلخ " .
قال شيخنا محمد بن هادي حفظه الله تعالى : بعض هؤلاء تأتي بالجرح فيقال هات الجرح المفسر ، تأتي بالجرح المفسر يقولون لا الكذب يحتاج الى تفسير والاحمق يحتاج الى تفسير والشر يحتاج الى تفسير وهكذا فالان لابد من التفسير جاء الجرح المفسر ذهبوا الى التزكيات.[3]
ثامنا :
ومن صور التشغيب اللعب بقواعد السلف من قبل هؤلاء الصعافقة قولهم في الردود التي بين العلماء وطلابهم ،فضلا أن يكونوا من أقرانهم
فبعض المغرضين المندسّين ينزّل هذه القاعدة فيما يحصل في الساحة الدعوية من قبل هؤلاء الصعافقة وبين المجرّحين لهم من قبل بعض علماء السنة من مشايخنا الأفاضل ، بأن :"كلام الأقران يطوى ولا يروى"
1 ـ فأهل العلم لا يسكتون في جرح الأقران بعضهم في بعض ، وهذا من باب التنزّل ، وإلا الجارح من كبار أهل العلم والفضل ، والمجروح من حدثاء الأسنان علما وهكذا أيضا سنا ، وقبل وبعد أهل السنة يعظّمون الحقّ لا الخلق.
الشاهد : أن الجارج لقرينة بالحجج والبراهين يجب قبول قوله،ولا يجوز العدول عنه ، وعلى هذا مضى سلفنا الكرام ممن يقتدى بهم سلفا وخلفا، وكلام الأقران بعضهم في بعض مقدّم على غيرهم ممن جاء بعدهم، وهذه كتب الجرح والتعديل فاقرؤوها وتصفّحفوها وانظروا مافيها من كلام الأقران بعضهم في بعض
، بل أغلب جرح الأئمة من هذا القبيل.
والعلماء لما تكلّموا في قاعدة :"كلام الأقران يطوى ولا يروى" قيّدوها بقيد مهم تجاهلوه هؤلاء الصعافقة وهو :إذا كان الجارح بدون حجج وبراهين أو كان لعصبية أوقبلية أومذهبية أونحو ذلك.
وأما إذا كان الجرح مبنيا بحجج وبراهين فإن قبول جرحه من أوجب الواجبات ،ولا يجوز العدول عنه ،لأن الأقران هم أعرف الناس بعضهم ببعض ولأن القرين هو أعلم الناس بقرينه ومن المرجّحات التي يذكرها العلماء أن كلام المعاصر أولى من كلام المتأخر عن عصر الراوي لأن المعاصر أعرف بالراوي و"بلديّ الرجل أعرف ببلديّه".
قال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله: جرح الأقران أثبت من غيرهم، لأنّهم أعرف بقرنائهم، فهي مقبولة إلا إذا علم أن بينهما تنافسًا وعداوةً سواء لأجل دنيا، أو مناصب، أو خطأ في فهم، ويريد أن يلزم الآخر بخطأ فهمه.
فينبغي أن تعلم هذا ولا تصغ لقول المبتدعة والحزبيين والديمقراطيين: أن كلام الأقران ليس مقبولاً على الإطلاق.إهـ
2 ـ يلزم من كلامكم أن أئمة الجرح والتعديل الذين حذّروا من أقرانهم بجرح مبيّن ومفسّر لا نقبل كلامهم لأنه يجب أن يطوى ولا يروى ، وكتب السلف طافحة بذلك ،ففي تراجم الضعفاء والمتروكين والمجروحين ومن ضعفه المحدثون من قِبل أقرانهم يصعب حصرهم وذلك لكثرتهم، انظر: "الضعفاء الكبير" للعقيلي ، و "الكامل"لابن عدي ،و"المجروحون"لابن حبان،و"الضعفاء الصغير"للبخاري ،و"كتاب الضعفاءِ والمتروكين"للنسائي وللذهبي وللدارقطني ولابن الجوزي،و"تهذيب الكمال"للمزي ،و"الميزان" و"السير"للذهبي ،و"تقريب التهذيب"لابن حجر،وغير ذلك من كتب المصنفة في هذا الباب.
تاسعا:
ومن صور التشغيب أيضا أن العالم السلفي إذا جرّح بعض السفهاء وطلبة العلم ، يذهبون ويهرعون إلى التزكيات ، وهذا لا ينبئ إلا لمرض في القلب ، ويتغافلون عن القواعد السلفية الأثرية منها : أن بلدي الرجل أعرف به من غيره.
وهذه القاعدة السلفية التي أساؤوا أيّما إساءة في تنزيلها واستغلالها ،وهي حجة عليهم لا لهم لو كانوا يعقلون ،وهذا إن دلّ فإنما يدلّ على غرورهم وجهلهم وخبثهم وسوء طويّتهم ، لأن أهل العلم ذكروها في الرجل الذي إذا سُئلوا عنه ولم يعرفوه ، ولم يقفوا على شيء من كتبه أو مسموعاته أونحو ذلك.
أو من القرائن التي ينبغي اعتمادها في ترجيح حال الراوي المختلف فيه إذا كان الجرح فيه غير مفسّر ولا معتبر.
فعن حماد بن زيد -رحمه الله - قال: كان الرجل يقدم علينا من البلاد ويذكر الرجل ويحدث عنه ويحسن الثناء عليه ، فإذا سألنا أهل بلده وجدناه غير ما يقول . وكان يقول : بلدي الرجل أعرف بالرجل.[4]
وقال ـ رحمه الله ـ كما في الكفاية (133) : مما لاشك فيه أن أهل البلد أعرف بحديث شيوخهم من غيرهم ، فأهل المدينة أعرف بحديث نافع ومالك من غيرهم ، وأهل مكة أعرف بحديث عمرو بن دينار ، وأهل البصرة أعرف بحديث قتادة ، وأهل الكوفة أعرف بحديث أبي إسحاق السبيعي ، وأهل مصر أعرف بحديث الليث بن سعد ، وهكذا ...
وقال أبو زرعة الدمشقي : قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله ، ما تقول في سعيد بن بشير ؟ قال : " أنتم أعلم به.[5]
قال أبو بكر المروذي رحمه الله : سألت أحمد بن حنبل عن قَطَن الذي روى عنه مغيرة ؟ فقال : " لا أعرفه إلا بما روى عنه مغيرة " ، قلت : إن جريراً ذكره بذكر سوء، قال : " لا أدري ، جرير أعرف به وببلده ".
وقال أبو زرعة الدمشقي : قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله ، ما تقول في سعيد بن بشير ؟ قال : " أنتم أعلم به ". تاريخ أبي زُرعة ( 1 / 540 ) ، وإنما قال أحمد ذلك لأن سعيداً هذا دمشقي .
وكان محمد بن عبد الله بن نمير من نقاد الكوفيين ، قال علي بن الحسين بن الجنيد : كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يقولان في شيوخ الكوفيين : ما يقول ابن نمير فيهم ؟.[6]
وقال ابن عدي في ( محمد بن عوف الحمصي ) : " هو عالم بأحاديث الشام ، صحيحها وضعيفها ".[7]
وقال ابن عدي في "شقيق الضبي" : " كان من قصاص أهل الكوفة ، والغالب عليه القصص ، ولا أعرف له أحاديث مسندة كما لغيره ، وهو مذموم عند أهل بلده ، وهم أعرف به ".[8]
وقال الشيخ الألباني – رحمه الله - :أبو عمرو- إسحاق بن إبراهيم بن زبريق ضعيف جدا ، قال النسائي : ليس بثقة. وقال أبو داود : ليس بشيء . وكذبه محدث حمص محمد بن عوف الطائي وهو أعرف بأهل بلده.[9]
وسئل شيخنا ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ ما نصه : ما هو الضابط شيخنا في بَلَدِيّ الرجل وهل هو على الإطلاق فيدخل فيه العرف ويشمل العوام، أو هو للعلماء وطلاب العلم فقط، أفيدونا بارك الله فيك وجزاكم خيرا؟.
فأجاب بقوله : هذه يقولها علماء الحديث، يعني: الرجل أعرف بأهل بلده. لماذا؟، لأن أهل الحديث لهم عناية بكتاب الله وبسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ودراسة أحوال الرواة وأحوال أهل البدع، لهم عناية شديدة، وكل واحد لا شك أنه أعرف بأهل بلده من البلدان الأخرى، ويستند بعضهم على بعض في معرفة الرجال، هذا يعرف أهل بلده أكثر، وذاك يعرف أهل بلده أكثر-بارك الله فيك-هذا شيء معروف ، لا يريدون أن كل الناس هكذا. يعني: الإنسان، الآن أنا كثير من جيراني ما أعرفهم!، بينما أهل الحديث يعرفون لأنهم لهم صلة بهؤلاء تربطهم بهم الرواية-بارك الله فيك-، يبحثون عن عقائدهم، لهم تخصصات في هذه الأمور-بارك الله فيك-، فأعني: فيما أعتقد أن هذا يراد به من يعتني بكتاب الله وسنة الرسول ويذب عنه ويحمي حياضه لا كلّ من هبّ ودبّ.اهـ
وهذا ماتيسر إيراده في هذه الحلقة ، وتتبعها حلقات بمشيئة الله في بيان صور التخذيل والمناوءة ، والأساليب المخزية التي طرقها ومضى على دربها ومشى على منوالها هؤلاء المخذلة الصعافقة .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
20 / 04 / 1439
مكة المكرمة.
الحواشي :
[1] ـ اللباب (ص503).
[2] ـ شرح أصول اعتقاد أهل السنة ( 1/19 ) .
[3] ـ *من محاضرة معنونة بــ"سنوات خداعات".
[4] ـ" الكفاية" للخطيب(ص 175)
[5] ـ" تاريخ أبي زُرعة (1/540 ).
[6] ـ أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ في " المقدمة " ( ص : 320 ) عن ابنِ الجنيد.
[7] ـ الكامل ( 1 / 231 ) .
[8] ـ( الكامل (5 /71).
[9] ـ"الضعيفة" (758)